شهدت محافظة السويداء السورية فصلاً جديداً من فصول الدراما الدموية التي تتكرر في الجغرافيا السورية كلما التقت الخيانة مع الأطماع الخارجية. هذه المرة، جاءت الخيانة على يد من كان يُفترض أن يكون شريكاً في استعادة الأمن، لكنه قرر الوقوف على الضفة الأخرى من الوطن، مستعيناً بعدوٍ طالما حلم بتقسيم سوريا وابتلاعها قطعةً تلو الأخرى. فهل كان ما جرى في السويداء لحظة عابرة؟ أم أنه نقطة تحول كشفت سذاجة المراهنة على الحماية الإسرائيلية في ظل وجود داهية في القيادة السورية؟
مفارقة الانسحاب والتقدم: من الباب إلى النافذة
بمجرد أن تلقّت قوات "الشرع والعصائب" ضربات جوية إسرائيلية مركزة، وتحت ضغوط إقليمية ودولية مكثفة، جاء انسحابها السريع ليترك فراغاً أمنياً خطيراً. هذا الفراغ استغلته ميليشيات "الهجري" للانقضاض على المدنيين، مؤكدة أن خطابها المعلن لم يكن سوى ستار دخاني يخفي نواياها الانتقامية والطائفية.
لكن المفارقة الأكبر لم تكن في اسلوب خروج قوات الشرع والعصائب الرسمية من الباب بل في من دخل بعده: با اسلوب الجولاني برفقة العشائر، عبر "النافذة"، في تحرك مباغت وسريع، مدعوم بعشرات الآلاف من المقاتلين المنظمين خلال ساعات فقط. وكأن هناك مخططاً مُعداً مسبقاً؛ هل كان الانسحاب جزءاً من "خطة ب" تفاجئت فيها إسرائيل كما نحن؟ وهل كان الهجري سوى أداة تم تهيئتها بعناية ليكون شرارة الفوضى التي تبرر التدخل الصهيوني؟
أوهام "ممر داوود": حين تحاول إسرائيل اللعب بالنار السورية
بينما كانت غزة تئن تحت وطأة الجوع والدمار، وفي لحظة حساسة من تاريخ الصراع الإقليمي، حاول نتنياهو حرف الأنظار نحو مشروعه القديم الجديد: "ممر داوود" الذي يربط المتوسط بالخليج عبر سوريا المفككة. ظن أن السويداء ستكون البوابة المثالية، وأن دعم ميليشيا متمردة سيمكنه من ترسيخ واقع تقسيمي جديد.
لكن الواقع السوري عاكس الحلم الإسرائيلي. فالتعقيد الميداني، وتضارب مصالح الفاعلين المحليين والإقليميين، اعاق المشروع قبل أن يبدأ. لقد اكتشف نتنياهو متأخراً أن السويداء ليست بوابة مفتوحة، بل متاهة مملوءة بألغام التوازنات والتعقيدات.
السقوط في بئر الخيانة: الحبل الإسرائيلي لا يُنقذ
في لحظة ذروة التمرد، ظهر "الهجري" على حقيقته: رجل فقد البوصلة وقرر الرهان على "إسرائيل". لم تمر 24 ساعة على طلبه الدعم الصهيوني العلني حتى وجد نفسه محاصراً بفوضى عارمة، وميليشياته تكشف عن حقيقتها بالاعمال الوحشية ضد المدنيين ، والسكان يئنّون من جرائم تلك العصابات.
وها هو الهجري يعود لطلب تدخل قوات الشرع، ذاتها التي طالب بطردها، و بضغوط أمريكية على الشرع نُقلت مباشرة من نتنياهو!
الخيانة، كما علّمتنا تجارب المنطقة، لا تبني أوطاناً، ولا تصنع حرية، بل تُفقد صاحبها الشرعية والمصداقية إلى الأبد.
الحماية الإسرائيلية: الوهم القاتل
الاعتقاد بأن إسرائيل ستحمي أي طرف داخل سوريا هو انتحار سياسي. فالدولة التي ترسل طائراتها لتدمير البنى التحتية السورية لا تهتم بحماية المدنيين أو ضمان استقرار أي منطقة. هي دولة مصالح، تستخدم العملاء ثم تتخلص منهم حين تنتهي صلاحيتهم. والسويداء، للأسف، كانت ميدان التجربة الأحدث لهذا الوهم.
مشهد جيوستراتيجي معقّد... وانكشاف الأوراق
يبقى السؤال المحوري مطروحاً: هل انسحب الشرع والعصائب ضمن خطة خداع استراتيجي؟ هل كان هذا الانسحاب تكتيكياً لدفع الهجري إلى كشف أوراقه، ومن ثم العودة إلى الميدان بموقع أقوى؟ إذا صح هذا الافتراض، فنحن أمام لعبة شطرنج معقدة قد تربك حسابات كثيرة.
ومع ذلك، يبقى الثابت الوحيد أن السويداء دفعت ثمناً باهظاً لخيانة داخلية تراهن على حماية خارجية، وأن إسرائيل، رغم كل محاولاتها، لا تزال عاجزة عن تثبيت أقدامها في قلب الجغرافيا السورية المعقدة.
القادم أعظم
الفصل القادم من هذه الرواية لم يُكتب بعد، لكنه قادم لا محالة. وستحمل الأيام القادمة مفاجآت قد تطيح بكل الحسابات، وتعيد ترتيب الأوراق على رقعة الصراع. لكن المؤكد أن جراح السويداء عميقة، وستحتاج لزمن طويل كي تُرمم كرامتها، بعد أن حاول البعض بيعها في بازار الوهم الإسرائيلي.